الصورة تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي
د. عبدالله الطاهر
أستاذ الإعلام الرقمي المساعد بالجامعة الخليجية
فتحت ثورة التكنولوجيا آفاقاً جديدة للتفكير المنفتح، وتعزيز مفهوم الحرية، وتبادل المعلومات، وساهمت إسهامات كبيرة في تطوير العملية الإعلامية والاتصالية وفلسفتها، وإن كانت هناك تحديات تواجه الممارسات المختلفة خاصة ضمن إطار وسائل التواصل الاجتماعي تمثلت في قضايا الخصوصية والأخلاقيات والتلاعب، الأمر الذي يدفع نحو تعزيز مواثيق الشرف المهني .
وظلت وسائل الإعلام والتواصل تؤثر في وتتأثر بكل التطورات التي تشهدها المجتمعات، وأستفادت من كل تطور تقني جديد منذ مطبعة يوهان جوتنبرج عام 1440 قبل ما يقارب الستة قرون، وتلغراف صامويل موريس عام 1810، وهاتف ألكسندر جراهام بيل عام 1876، ودفعت هذه المخترعات والتطورات اللاحقة وسائل الإعلام إلى مستوى متطور من الممارسات المهنية، وأسهمت التطورات التقنية الحديثة التي تدامجت مع وسائل الإعلام والتواصل في التأثير على أنماط الاستهلاك، والإنتاج، والتفاعل مع المحتوى الإعلامي.
إن الموجة الجديدة للإعلام هي موجة دامجت ما بين التكنولوجيا والفكر، منذ يورغن هابرماس الذي يعتبر أن العلم والتقنية تحولتا إلى أيديولوجيا فاقمت من التغيرات الاجتماعية العميقة التي شهدتها وتشهدها المجتمعات، وهناك أنماط إعلام جديدة ستبرز في الأفق مع كل تطور تكنولوجي مقبل تحمل معها قيم تفكير مختلفة. ولقد تركت جائحة كورونا (COVID-19) أثراً فاعلاً على تأثير التكنولوجيا في حياة المجتمعات وعلى وجه التخصيص في مجالات التعليم عن بعد والتجارة الإلكترونية والتواصل.
ويشير مصطلح إعلام ما بعد التفاعلية (Post-Interactivity Media) إلى مستوى متطور في التقدم الذي شهدته وسائل الإعلام الرقمية، إذ تتجاوز التفاعلية التقليدية بين المستخدمين والمحتوى لتصل إلى مستوى أعمق وأكثر تكاملاً، في هذه المرحلة، فلا يكون المستخدم مجرد متفاعل مع المحتوى أو مساهم في صناعته فحسب، بل يصبح جزءاً من عملية ديناميكية تجمع بين الذكاء الاصطناعي، والواقع الافتراضي، والتحليلات المتقدمة لتقديم تجارب إعلامية مخصصة، وتفاعلية، ومتكاملة بشكل أكبر.
ومن الخصائص التي تميز إعلام ما بعد التفاعلية:
التخصيص الفائق: باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل سلوك المستخدمين وتقديم محتوى مخصص بناءً على تفضيلاتهم واهتماماتهم.
الاندماج بين العالمين الرقمي والحقيقي: حيث يُستخدم الواقع المعزز والافتراضي لإنشاء بيئات تفاعلية تتجاوز الوسائط التقليدية.
التفاعل العميق والمستدام: من خلال الاستفادة من البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي للتفاعل مع الجمهور في الوقت الفعلي وبشكل دائم ومستمر.
التنبؤ بسلوك المستخدم: فالتفاعل ليس فقط رد فعل على المستخدم، بل التنبؤ بسلوكه وتقديم تجارب استباقية. أما بالنسبة لأول من كتب حول مفهوم إعلام ما بعد التفاعلية، فإن هذا المفهوم تطور من خلال العديد من النقاشات الأكاديمية والأبحاث حول التفاعلية في الإعلام والوسائط الرقمية.
دفع كل ذلك الممارسات الإعلامية والتواصلية إلى أفق واسع يعتمد فلسفة تقوم على منهج "دعه يكتب دعه ينشر"، وتحول المستقبل إلى صانع محتوى، وتعزز مفهوم "الشخصانية الفردية"، بعدما كان الإعلام يعتمد على التعامل مع الجمهور كوحدة واحدة.
وفي ظل إعلام ما بعد التفاعلية تشكل قضية الخصوصية وجمع البيانات محوراً رئيساً ضمن التحديات التي تواجه الإعلام، ذلك لأن إعلام ما بعد التفاعلية يعتمد على تحليل كميات هائلة من البيانات الشخصية للمستخدمين عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والمواقع المختلفة، الأمر الذي يحتم التفكير بعمق في كيفية الحفاظ على خصوصية المستخدمين، خاصة في ظل التزايد المستمر لجمع البيانات وتحليلها باستخدام الذكاء الاصطناعي. وتشير كثير من الدراسات، وواقع الممارسات إلى أن هناك إمكانية لإساءة استخدام البيانات الشخصية أو انتهاك الخصوصية، خاصة مع استخدام تقنيات التنبؤ بسلوك المستخدم، إذ يُستخدم الذكاء الاصطناعي لاستهداف المستخدمين بمحتوى مخصص بناءً على أنماط سلوكهم مما ينتهك حقوقهم ويؤثر سالباً على حريتهم في اتخاذ قرارات مستقلة.
كما تبرز على السطح إمكانية دور الذكاء الاصطناعي في التحكم بالمحتوى، إذ يمكن أن تكون الخوارزميات التي تحدد ما يظهر للمستخدمين متحيزة، الأمر الذي يؤدي إلى تضليل أو توجيه الجمهور بطرق معينة.
وهناك تساؤلات مهمة للغاية في ظل الاستخدام المتعاظم للذكاء الاصطناعي في صناعة المحتوى الإعلامي، وهي كيف يمكن أن يؤثر ذلك في تقليل الإبداع الإنساني؟، فالأتمتة والإبداع يشكلان راهناً محور مناقشات بين العديد من الباحثين.